مرة أخرى.. من قتل الأقباط؟
مرة أخرى.. من قتل الأقباط؟
الحادث المروع الذى حدث فى الإسكندرية فى ليلة رأس السنة، يتطلب منا بلا شك بذل جهد كبير فى محاولة فهم أسبابه، يزيد فى رأيى عما تعودنا بذله فى فهم أحداث مأساوية أخرى.
نعم، ليست هذه المرة الأولى التى يتعرض فيها الأقباط لاعتداء مروع، ولكن الذى حدث هذه المرة هو ثانى حدث من نوع جديد من الاعتداءات على الأقباط، والحدثان وقعا فى عام واحد، وبينهما أوجه شبه تميزهما عن الأحداث السابقة: ترتيب مبيت ومخطط بدقة، ليس نتيجة انفعال طارئ أو شجار حول موضوع بعينه اختلف حوله مسلمون وأقباط، فثارت المشاعر وتفجر غيظ مكبوت انتهى بقتلى أو جرحى، ليس هذا هو ما حدث فى الإسكندرية منذ أيام، أو فى نجع حمادى منذ عام. ليس الهدف فى الحالين تسوية حسابات قديمة أو جديدة، أو انتقام من اعتداء سابق، أو مناصرة شخص بعينه أو أشخاص معينين ضد شخص أو أشخاص من الديانة الأخرى. بل الاعتداء مصوب نحو الأقباط بصفة عامة ودون تمييز، ليس لخطأ ارتكبه بعضهم، حقيقى أو متوهم، بل لمجرد أنهم أقباط. ومرتكب الحادث أو مرتكبوه يتصرفون بهدوء تام ودون انفعال، وبناء على تفكير وتخطيط سابق، مما يرجح أن مخطط الحادث شخص هادئ الأعصاب له هدف محدد سلفا، ومن ثم فإنه قد لا يكون شخصا متعصبا بالمرة، بل ولا حتى بالضرورة مسلما (حتى لو كان منفذ الحادث مسلما).
الأمر مريب جدا إذن، فضلا عن كونه مأساويا، ومن ثم يتطلب منا بذل جهد مضاعف لسبر أغوار ومعرفة ما وراءه.
مما يضاعف من الجهد المطلوب إننا نحاوى حل لغز لا يتاح بشأنه الكثير من المعلومات، بل حتى المعلومات التى توصل إليها المحققون قد يحجب الكثير منها عنا بحجة «أغراض الأمن». المعلومات المنشورة من الضآلة بحيث لا تسمح لنا حتى بمعرفة ما إذا كان مرتكب الجريمة قد مات أثناء ارتكابه أو لم يمت، ومن ثم سمح لبعض المسئولين عن التحقيق بالقول بأن «العملية انتحارية» بعد ساعات قليلة من وقوعها، ودون أن يكون هناك أى دليل على أن مفجر السيارة كان بداخلها وقت التفجير أو بالقرب منها. كما سمح لبعض الناس أن يقولوا إن المجرم رجل طويل وأبيض البشرة ولآخرين أن يقولوا إنه أسمر وقصير القامة.. إلخ.
أضف إلى ذلك أن أجهزة الإعلام الحكومية لديها مصلحة واضحة فى تصوير بعض الأمور على غير حقيقتها، لمحاولة الإيحاء، بعد وقوع الحادث مباشرة، بأن عدد الضحايا من المسلمين لا يقل كثيرا عن عددهم بين الأقباط، ومحاولة تجنب الإيضاح عن عدد القتلى بالضبط، بضم عدد المصابين إلى عدد القتلى، والمبالغة فى حجم الإجراءات التى اتخذت قبل الحادث لمنع حدوثه.. إلخ.
يزيد من صعوبة أى محاولة للفهم ما أثاره الحادث، بطبيعة الحال، من عواطف متأججة وحزن وتأثر شديدين من الجانبين، وغضب وثورة عارمة فى نفوس الأقباط على الأخص، والحزن والغضب الشديدان من شأنهما إعاقة الفهم الصحيح لما حدث، فترفض تفسيرات معقولة جدا لمجرد أنها تلقى بالمسئولية على شخص أو أشخاص ليسوا هم أكثر الأشخاص محلا للكراهية، أو تلقيها على دولة أو قوة خارجية يصعب الوصول إليها أو تأديبها أو الانتقام منها، بينما المطلوب إجراء عاجل يريح القلوب الدامية ويضمد الجراح بسرعة.
المعلومات قليلة، والعواطف هائجة، والغضب شديد، فكيف لنا أن نفكر بهدوء لمحاولة تحديد شخصية الجانى أو الجناة، أو حتى مجرد ترجيح تفسير معين على غيره؟
لا عجب، والحال كذلك، أنه على الرغم من كثرة ما كتب من تعليقات على الحادث من النادر أن تجد من يتساءل عن الدوافع الممكنة لارتكابه، بل يكتفى عن طيب خاطر بوصف الجانى بأنه «إرهابى»، مع أن هذا الوصف لا يساعد قيد أنملة فى تحديد شخصية مرتكب الجريمة، إذا إنه لا يتضمن وصفا للجانى بل مجرد وصف لما فعله. العمل أثار الرعب بين الناس وأرهبهم، فلابد أن يكون الجانى «إرهابيا»، ولا شىء يقال لنا أكثر من ذلك.
كذلك نادرا ما يثار ذلك السؤال المهم، والذى يفترض أن يكون أول سؤال يطوف بذهن أى شخص يريد أن يعثر على الجانى: من المستفيد من هذا العمل الإجرامى؟ لا أحد يريد أن يثير هذا السؤال المهم، بل الجميع (أو تقريبا الجميع) يكتفون بترديد نفس المعنى بصورة أو بأخرى: «القاتل مسلم متعصب»، ثم يشبعون هذا المسلم المتعصب سباب وقذفا،، بل ويشرعون فورا فى البحث عن المسئول عن جعله متعصبا. هل هو غياب الديمقراطية، أم هو الإعلام اللاعقلانى، أم المقررات الدراسية الفاسدة، أم السياسة الاقتصادية الفاشلة... إلخ؟ وأنا لا أريد بالطبع أن أنفى أن ديمقراطيتنا مزيفة، أو أن وسائل الإعلان لدينا مليئة بالأمثلة على اللاعقلانية، وأوافق تماما القول بأن مقرراتنا المدرسية فيها الكثير مما يفسد عقول التلاميذ ويحتاج إلى مراجعة شاملة، وبأن سياستنا الاقتصادية تساعد على انتشار أمراض اجتماعية كثيرة منها التعصب الدينى، ولكن الإقرار بكل هذا شىء، والتسليم الجاهز بأنه المسئول عن جريمة الإسكندرية لابد أن يكون هو التعصب الدينى ــ شىء آخر تماما. بل إنى أصارح القارئ بأنى لم أستسغ قط إلقاء المسئولية على التعصب الدينى عن أن حادثا من حوادث الإجرام البشعة التى ارتكبت فى مصر ضد الأقباط أو غيرهم، دون أن تكون مرتبطة بعراك مباشر بين المسلمين والأقباط، أو بين مرتكبى الجريمة وضحاياها. لم أقبل مثلا (ولا أزال لا أقبل) تحميل التعصب الدينى مسئولية الاعتداء على نجيب محفوظ فى ????، أو الاعتداء على السياح فى الأقصر فى 1997، أو تفجير أتوبيسات السياح أمام فندق الهيلتون أو فى شارع الهرم منذ سنوات طويلة، أو تفجيرات شرم الشيخ منذ ثلاث سنوات، أو قتل الأقباط قبل عام فى نجع حمادى...إلخ. لم أقبل قط تفسيرات حادث من هذه الحوادث التى تبدو جنونية تماما، بالتعصب الدينى، وأضم إلى هذه الحوادث الآن، ما حدث فى الإسكندرية منذ أيام.
لدى أسباب قوية لرفض هذا التفسير الشائع، منها أن ما نشر عن شخصية الجناة وملابسات الجريمة لا يكفى للاقناع بهذا التفسير، ومنها أن ما نعرفه عن الشخصية المصرية لا يتفق بتاتا مع ارتكاب مثل هذه الجرائم وبالطريقة التى ارتكبت به. إنى لا أدعى بالطبع أن مصر خالية من المتعصبين والمتشنجين، وأعترف بأن اللاعقلانية زادت فى الخطاب الدينى بدرجة عالية جدا فى الثلاثين سنة الأخيرة ولكنى أعرف أيضا أن المصرى، حتى عندما تبلغ به اللاعقلانية أقصى مداها لا يتصرف على هذا النحو، وعلى أى حال، ما الذى فعله الأقباط بالضبط لكى يدفع أى مصرى إلى هذا النوع من السلوك؟ (ناهيك عن دفعه إلى عمل انتحارى كما زعمت وسائل الإعلام، أى التضحية بنفسه فى سبيل قتل بعض الأقباط؟!) وما الذى فعله أو كتبه نجيب محفوظ لكى يستثير مسلما متعصبا إلى محاولة قتله؟ وما الذى فعله السياح مما يثير غضب المسلم المتعصب على هذا النحو؟
ثم فلتخبرنى بالله ما الذى يمكن أن يستفيده الإسلام والمسلمون، المتعصبون منهم وغير المتعصبين، من مثل هذا العمل؟ إن الأضرار التى تصيب الإسلام والمسلمين من هذه الأعمال كثيرة ومخيفة، ولا يقابلها فائدة واحدة للإسلام يمكن أن تخطر بالبال.
ورجح البعض أن المسئول عن حادث الإسكندرية هو تنظيم القاعدة برئاسة أسامة بن لادن، استنادا إلى أن طريقة تفجير السيارة، وبعض ما أحاطه من ملابسات يشبه ما حدث من تفجيرات فى العراق فى الشهور الأخيرة. وأنا لا أنفى أن هناك بالفعل أوجه شبه بين التفجير هنا وهناك، ولكن على أى أساس قبلنا بهذه السهولة أن ما يسمى بتنظيم القاعدة يحركه ويخطط له مسلمون متعصبون؟ (بل ما هو الدليل على أن أسامة بن لادن ما زال حيا يرزق وأنه هو الذى يرسل التسجيلات إلى قناة الجزيرة ويعترف فيها، بالصوت والصورة، بمختلف الجرائم التى تنسيب إلى الإسلام والمسلمين: ألم يبلغك بعد أن من أسهل الأمور الآن تزييف أى شريط تسجيل، وإضافة أى صوت إلى أى صورة، ونسبتهما إلى أى شخص قد تكون أنت الذى اخترعته ابتداء؟).
الحقيقة أن ما حدث فى الإسكندرية فى سلسلة الحوادث التى تنسب إلى مسلمين متعصبين، هو أخطر بكثير من أن نسرع بتفسيره بهذه الطريقة، والمستفيدون من هذه الطريقة فى التفسير، هم فى رأيى المستفيدون الحقيقيون من هذه الجرائم وبالتالى فهم فى رأيى مخططوها، حتى ولو استأجروا أشخاصا مسلمين لتنفيذها. فهؤلاء الأشخاص المسلمون المستعدون لتنفيذ هذه الأعمال موجودون بالفعل، (كما أنهم موجودون فى كل البلاد وكل الأديان)، ولكن هذا النوع من الأشخاص ليس عادة من المتعصبين، بل هم فى العادة أشخاص ضائعون وبلا عقيدة من أى نوع، مستعدون لبيع أنفسهم مقابل الكمية المناسبة من المال (مثل الرجل الذى نفذ جريمة قتل المطربة سوزان تميم دون أن يكون له بها أى علاقة ولا أى شىء ضدها، بل ولا يهمه فى شىء ما إذا ماتت أو بقيت عل قيد الحياة، طالما قبض مكافأته).
نعود فنسأل: إذن من المستفيد؟
المستفيدون المحتملون ليسوا كثيرين: إسرائيل واحدة منهم، لأنه مما يساعدها على تحقيق أهدافها تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، ثم المزيد من هذا التشويه، وأصدقاء إسرائيل فى مصر مستفيدون محتملون آخرون، إذ إن تحقيق الأهداف الإسرائيلية يضمن لهم الاحتفاظ بنفوذهم، فضلا عن أن مثل هذه الجريمة وتكرارها يساعد على إظهارهم بمظهر المدافعين الوحيدين عن الأقباط. والإدارة الأمريكية مستفيد آخر محتمل لأنها تعمل على تحقيق الأهداف الإسرائيلية وأهداف أصدقاء إسرائيل فى مصر.
إن ما ذهبت إليه فى هذا المقال لا يعنى بالطبع أن نتكاسل فى أى عمل من شأنه مقاومة التعصب الدينى ومقاومة التفسير اللاعقلانى للدين، ولكنى لا أجد الحادث الإجرامى الذى وقع بالإسكندرية منذ أيام، أى علاقة بهذا المطلب.
بل الذى نخرج به من هذا الحادث وأمثاله، هو التأكيد على الحقيقة الآتية: إن قضية الأقباط فى هذا البلد هى فى الحقيقة نفس قضية المسلمين، إذ إن أعداء المسلمين هم نفس أعداء الأقباط، فى الخارج والداخل. ومن ثم فالرد على تفجير كنيسة بتفجير مسجد، سلوك خائب تماما مثلما هو منحط، بالضبط كما أن تفجير كنيسة لأنها مكان عبادة لأشخاص من غير دين، هو أيضا سلوك خائب تماما ومنحط. والمستفيد من كلا التفجيرين أشخاص وجهات لا تحمل أى مشاعر ودية لا للمسلمين ولا للأقباط.